كتابات
عادل الدول

رقصة بين ضفتي الإنسان
نحن لسنا كائنات تسير على خيط واحد، بل نحن سيمفونية من التناقضات المتناغمة، نغمة تعلو حينًا وتخبو حينًا، لكنّها لا تنقطع، تعزفها ذات واحدة بآليتين تبدوان متعارضتين، لكنهما في العمق وجهان لمرآة واحدة: العقل المفكر، الحارس الأمين على بوابة الوعي، يحلل ويقيس ويزن ويقارن، لا يسلم إلا لما يبرهن، ولا يؤمن إلا لما يبصر، كأنه الفيلسوف الذي لا يرضى أن يمشي في الظلام دون أن يحمل مصباح الحقيقة بيده؛ والقلب الشاعر، ذلك البركان الكامن في صدر الإنسان، يثور بلا إنذار، يهدأ بلا سبب، يندفع نحو ما يشتهي بسرعة البرق، ويهرب مما يخاف كأنه ظل لا يمسك، صوت الحياة الأول، النبض الذي سبق اللغة، والغريزة التي حفظت الإنسان حين كان الوحش والليل والجوع أقرب إليه من نفسه
وفي لحظات السكون، حين تستريح العاصفة وتنام الرياح على أجنحة الهدوء، يبدو العقل الربان الحكيم الذي يمسك بدفة السفينة بيد لا ترتجف. لكنّها لحظة قصيرة، إذ يكفي موقف يلامس وترًا في القلب لينقلب العالم رأسًا على عقب، فيصعد القلب كموجة عاتية تجرف كل ما أمامها، يقود بلا خريطة، يطلق الكلمة دون رجعة، والقرار دون تفكير، بينما يقف العقل في تلك اللحظة كالمتفرج خلف زجاج شفاف، يرى كل شيء ولا يستطيع أن يفعل شيئًا، كأنه سجين ذاته، يشاهد سفينته تغرق ولا يملك إلا أن يصمت
لكن الحياة ليست معركة بين هذين الجناحين، بل دعوة إلى رقصة أزلية، إلى تناغم يحول التناقض إلى إبداع، والصراع إلى وعي أعمق. هنا يظهر الذكاء العاطفي، تلك القدرة الساحرة على أن ترى مشاعرك كأنك تراقبها من بعد، أن تفهم لماذا غضبت قبل أن تحرق بيديك ما بنيته سنين، أن تدرك خوفك قبل أن يشلك، أن تعرف فرحك فلا تطير بعيدًا عن أرضك. إنه الجسر الذي يربط بين ما يجب أن يُفعل وما يُتوق إلى فعله، بين العقل الذي يخطط والقلب الذي يلهم انسانيتك

رحلة الروح إلى نورها
من عرف نفسه—أنها نسمة من روح الله—
عاد إلى نفسه، وعاد إلى ربه
ومن ظن أنه جسد فعاش له، مات معه
وبقي في الظلمة التي منها خُلق جسده؛
فالروح لا تحاسب على ما أكل الجسد
بل على ما أحبت، وما اشتهت، وما سكنت إليه
فاحذر أيّها الإنسان — أن تكون سجين جسدك
واجتهدْ أن تكون سائسه
فأنت لست ما تأكل
ولا ما تلبس
ولا ما يُقال فيك
أنت ما تبقى بعد أن يُدفن الجسد
وتُرفع الأعمال
ويُنادى: "اقرأ كتابك، كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا"
فمن عرفَ نفسه
عرفَ ربّه
ومن عرف ربّه
لم يمتْ أبدًا

الكتابةُ... شِفاءٌ هشّ، وصَمْتٌ مُتَكَلِّم
..ما يُكتَبُ لا يُصلِحُ العطبَ، لكنّه يُصيغُه
وهنا تكمنُ المفارقةُ العظيمة: فالكتابةُ لا تُنكرُ الألم، بل تُجسّدُهُ في حروفٍ تَحمِلُ دفءَ الجسدِ وبرودةَ الغياب. إنّها لا تُسكِتُ الصمتَ، بل تُخرِجهُ من عُزلتِهِ لتُطلِقَهُ في فضاءِ الكلمات، حيث يصيرُ الصمتُ كلامًا مُشفّرًا، والكلامُ صمتًا مُعلنًا. في هذه المسافةِ الرفيعةِ بين الصمتِ والكلام، تولدُ الكتابةُ كجسرٍ هشٍّ، لا يَعْبُرُ عليهِ القارئُ فحسب، بل تعبرُ عليهِ الذاتُ نفسها، لتَلمسَ جُرحَها من بعيد، كأنّها تَلمسُ ظلَّها في ماءٍ راكد
الكتابةُ هنا ليست نسيانًا، بل تذكُّرٌ مُرتّب
ليست هروبًا، بل مواجهةٌ مُقنّعة
ليست انتصارًا، بل استمرارٌ رغمَ الهزيمة
ففي كلِّ جملةٍ تُكتَبُ من قلبِ الألم، هناك محاولةٌ لِخلقِ مسافةٍ—مسافةٍ بين الذاتِ وما ينهشُها من الداخل، بين الحدثِ وذكراه، بين الجرحِ وصوته. وهذه المسافةُ، مهما كانت ضئيلةً، هي ما يبقينا أحياءً. لأنّ من لا يملكُ مسافةً بينهُ وبين جرحِه، يصيرُ الجرحَ نفسَه، ويذوبُ فيهِ دون أن يتركَ أثرًا
لذا، لا تطلبْ من الكتابةِ أن تُشفِيَكَ، فربّما لا تَملِكُ تلك القوّة
لكن اطلبْ منها أن تُبقيكَ حاضرًا، أن تُثبّتَكَ في لحظتِك، أن تُعطيَ وجعَكَ شكلاً، وصوتًا، ومكانًا. ففي ذلك، وحده، قد تجدُ ما يشبهُ الشفاء... شفاءً هشًّا، نعم، لكنّه شفاءٌ يَحمِلُ في طيّاتِهِ كرامةَ الصمود